على تخوم المشهد، حيث يذوب الضوء في حواف العتمة، وحيث الصدى أضعف من أن يروي الحكاية، يقف ظلّ طويل بلا ملامح. لا يخطو نحو النور، ولا يتوارى تمامًا في الظلام؛ كأنه اختار أن يعيش في المنطقة الرمادية التي لا ينتمي إليها أحد. يطلّ برأسه أحيانًا، لا ليشارك أو يُسهم، بل ليلقي حجرًا في ماءٍ صافٍ، ثم ينسحب قبل أن يراه أحد. هناك، في الهامش البعيد، حيث الأسماء لا تُكتب إلا في القوائم التي تُطوى قبل أن تُقرأ، يعيش هذا الظلّ على فتات الحكايات المتساقطة من موائد الآخرين. حاول أن يتشكّل يومًا تحت سقف مؤسسة، لكنه تاه في دهاليزها وأروقتها، يطرق الأبواب الخطأ، ويمدّ يده إلى مفاتيح لا تفتح شيئًا، حتى وجد نفسه خارج الصورة قبل أن تلتقط العدسات أول إطار. ومنذ ذلك التيه، صار يعرف أن المنصة ليست قدره، وأن المقعد هناك محجوز لغيره… إلى الأبد. لم يعد الحلم بالمنصة أكثر من مقعدٍ في خيالٍ مُعطّل، صورة باهتة يلمع فيها اسمه بخط اليد، ثم تمحوها الحقيقة سريعًا. كل ما يفعله اليوم، حين تعلن دولة شقيقة عن ملتقى ناجح، هو أن يُنشّط شبكة الاتصالات التي لا تعرف سوى لغة واحدة: تشويش الموجات، تسميم الأثير، وصياغة الأخبار على هيئة طُعمٍ مغمّس في الوحل. فإذا نجح أحد، أطلق عليه قذيفة من بعيد، لعل الغبار الذي تثيره يحجب الألق عن العيون. لا كاميرا، لا قلم، لا منبر… لكن هناك خيوط عنكبوتية تمتدّ إلى غرفٍ مغلقة وألسنةٍ مأجورة، تلتقط ما تظنه صيدًا ثمينًا من الأسرار، فيعيد طبخه على نيران الحقد، ويقدّمه إلى الآخرين على أنه كشفٌ خطير. وفي الحقيقة، ما هو إلا دخان يتلاشى عند أول نسمة صدق. وأحيانًا، يختلق قوافل تحت لافتةٍ مستعارة، نصفهم لا يعرف إلا الحروف الأولى من الكلمة المرفوعة على اللافتة، والنصف الآخر يلتقط صورًا للذكرى. وجوه من جنسيات شتى، يربطها جهلٌ واحد، وتفرّقها لهجاتٌ كثيرة، يقودهم كجنرالٍ من ورق، يوزّع عليهم أدوارًا وهمية، ثم يجمع من جيوبهم ما يملأ جيبه، وكأنه يبيع تذاكر لمسرحية هو الممثل الوحيد فيها… ولا جمهور لها. هكذا يظل… بعيدًا عن الأضواء، قريبًا من الظلال، يتنفس من رئة الكيد، ويقتات على أخبار الآخرين، لا لينقلها أو يوثقها، بل ليلطخها بما يليق بمخزونه من الغبار المسموم. يراقب المنصات من وراء الأسوار، ينصت لوقع التصفيق من بعيد، يحاول أن يتخيل نفسه هناك… ثم يبتسم ابتسامة العاجز. فبينه وبين الإعلام مسافة لا تُقاس بالأميال، بل بما في قلبه من خواء، ومسافة كهذه لا تُختصر، ولا تُقطع، ولا يُرجى لها وصول… بإذن الله.


مواضيع مرتبطة

التعليقات


الاستفتاء

الاكثر تفاعل

اعلان ممول


المواقع الإجتماعية

القائمة البريدية